الاثنين، 14 أبريل 2014

حكاية الأم زينب




يقول أبي، إنّه لم يتمكن من الضحك بشكل فيه صفاء منذ أن رحلت والدته السيدة زينب، يحكي أن ذلك حدث منذ عام 90، ورغم انقضاء السنين، وتعاقب الأيام بما فيها من تفاصيل جديدة، إلا أن ذلك لم يفلح في محو كآبة رحيل الأم، يقول أبي إن أمه كانت الشخص الذي يستند إليه ولا يملك أمامها إلا الرضا والقنوع بمجرد ابتسامة على محياها، مثلّت الأم زينب إلهاً على الأرض.
في مطلع الثمانينات والكل يستعد للهجرة إلى الخليج، جاء لأبي عرض من الإمارات، وآخر في محافظة أخرى، وكان إخوة أبي قد انتقل كل منهم لمحافظة ومنهم من سافر للخارج، جاءت الأم زينب، أخبرته برغبة دفينة أن يستمر جوارها، لم يفكر أبي، كان قد عين بالتموين، وقتها قالت له الأم إن الله سوف يرضيه، يحكي أبي إنّه بعد ذلك اليوم وشعور بالقناعة والرضا لم يفارقاه حتى هذه اللحظة، رغم ما مر به من ظروف صعبة.
ولُدت الطفلة زينب لأم تركية، انتقلت مع كثير من الأتراك إلى صعيد مصر، تحديداً في قرية تسمى بأبو شحاتة في مركز مطاي التابع لمحافظة المنيا، تظهر الطفلة زينب في صورة برفقة أبيها الشيخ مرتدية بوت طويل جلدي، نشأت في بيت يقدّر الدين والعلم، أبيها كان شيخاً كبيرأ معروفا في القطر حاصلاً على شهادة العالمية، وتم نفيه لآرائه، ترعرعت وهي تجمع بين اعتداد الأتراك بأنفسهم وبين طيبة الريف.
لم تكمل الفتاة تعليمها كعادة فتيات الصعيد في ذلك الوقت، تزوّجت من محمد دياب، الفتي الذي يسكن بني مزار، والذي عمل كطرابيشي ومن بعد ذلك كان وأخيه يمتلكان "شونيه" لحفظ وبيع الغلال، جاءت سيدة الدار وهي لا تعرف إلا كيف تطبخ صنفين: الأرز والمكرونة، لكن الزوج استقبل كل ذلك برحابة صدر، وحب عميقين، بعد ذلك باتت تتقن الأساسيات في الطعام، يصف الأب وإخوته مذاق طعام الأم بالذي لم يتكرر حتى الآن، ربما يردد كل الأبناء ذلك، لكن حتى أمي ومن كان حولها ردد نفس الأمر.
لم تكن الأم زينب تطيق التصوير، كانت ترفض أن يسمّي أي من أبنائها زينب خشية أن يشتم الطفلة أحد على سبيل الهزار، فتسمع ما يلحق باسمها ما لا تحب، لم تكن تحب الأتراك رغم أصلها التركي، حيث رفضت تزويج أولادها من أقاربهن رغم جمالهن الأخاذ، بحسب أبي، مرددة "الأتراك مينفعش يتعاشروا". 
كانت الأم زينب تواظب على المسلسلات مع دخول التلفزيون عالمهم، كانت تحرص عليها، وترفض طقس إغلاق التلفزيون في المآتم، كما كانت تحب أن تستمع إلى نشرات الأخبار وتقرأ الجرائد باستمرار، يتذكر أبي مرضها لثلاثة أيام ولم تكن تستطيع القراءة، فلما استفاقت كان أول ما طلبت الجرائد البائتة لتنظر ما فاتها، يخرج أبي من صندوقه القديم أعداد مجلات نصر أكتوبر وفساتين أم كلثوم الجديدة وذكريات لا يُسمع عنها إلا في كتب التاريخ، موجودة المانشيتات التي عاصروها.
ذات مرة مرض أخيها محمود الحفناوي، وكان صحفياً بالأخبار معروفاً حينذاك، فسافرت ورقدت جواره، كان أنيس منصور وجلال عارف وأسماء صحفية يعودونه، ثم يخرجون وهم يسألون عن تلك السيدة الريفية المتشحة بالسواد والتي تناقشهم في الأدب الإنجليزي والروسي وأعمدتهم الصحفية وآرائهم السياسية. كانت حريصة على القراءة، وكانت تطلب من أولادها القصص المقررة عليهم دراسياً لتقرأها قبلهم، عرف أبي مرتفعات وذرينج من أمّه.
كانت قوية، لا تهاب شيئاً، سمعها كان ضعيفاً، عوضت ذلك بنظر حاد، ذات يوم صرخ الجيران بأن ثعبانا كبيرا ظهر في الدار، خرج ممسكة العصاة، طالبت من الجيران مفارقة المنزل، حبست برفقته حتى أردته ميتاً، أكثر من سمعت أن لها كرامات، تحكي جدتي التي عاصرتها أنها لم تقابل سيدة أكثر طيبة في حياتها منها، جمعت من كل من عاصرها أنها كانت سيدة بركة، تقول أمي إنّها كانت تتصدق على الفقراء بما عندها من دقيق، وأدخل لأجد أن الدقيق لم ينقص شيئاً، تقسم أمي أنها في البدء لم تكن تصدق ما تسمع حتى رأته يتكرر كل حين، وعندما سألتها عن ذلك كانت ترد "بركة ربنا". تقول أمي إن الأم زينب كانت توبخها كثيراً لأنّها تسمع كلام أبي "الراجل لو اتعوّد منّك على كدا مش حيبقى ليكِ شخصية". يقول أبي إنّه اكتسب أبعاد الشخصية من الأم زينب.
لم أر جدتي إلا في صورتين أو ثلاثة، لم أرها تنفيذاً لدعوتها، ماتت يوم السادس من يناير، وولدت بعد ذلك بتسعة عشر يوماً فقط، تقول أمي إنّها ولدت أخي الأكبر عاصم "قيصرية"، وحين رأت الأم زينب ذلك التعب البادي على وجهها وعدم "تحويق" البنج فيها، دعت ألا يحيها الله حتى ترى أمي في ذلك التعب مرة أخرى، فماتت قبل أن تشاهدني وأنا أخرج بالقيصرية أيضاً من بطن أمي وهي تصرخ ألماً، لكن جدي استقبلني رغم ذلك كحفيده المفضّل، ولذلك حكاية أخرى من أبي.